سورة النازعات - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النازعات)


        


{فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36)}
قوله تعالى: {فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى} أي الداهية العظمى، وهي النفخة الثانية، التي يكون معها البعث، قاله ابن عباس في رواية الضحاك عنه، وهو قول الحسن. وعن ابن عباس أيضا والضحاك: أنها القيامة، سميت بذلك لأنها تطم على كل شي، فتعم ما سواها لعظم هولها، أي تقلبه.
وفي أمثالهم:
جرى الوادي فطم على القرى، المبرد: الطامة عند العرب الداهية التي لا تستطاع، وإنما أخذت فيما أحسب من قولهم: طم الفرس طميما إذا استفرغ جهده في الجري، وطم الماء إذا ملا النهر كله. غيره: هي مأخوذة من طم السيل الركية أي دفنها، والطم: الدفن والعلو.
وقال القاسم بن الوليد الهمداني: الطامة الكبري حين يساق أهل الجنة إلى الجنة واهل النار إلى النار. وهو معنى قول مجاهد: وقال سفيان: هي الساعة التي يسلم فيها أهل النار إلى الزبانية. أي الداهية التي طمت وعظمت، قال:
إن بعض الحب يعمي ويصم *** وكذاك البغض أدهى وأطم
{يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى} أي ما عمل من خير أو شر. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ أي ظهرت. لِمَنْ يَرى قال ابن عباس: يكشف عنها فيراها تتلظى كل ذي بصر.
وقيل: المراد الكافر لأنه الذي يرى النار بما فيها من أصناف العذاب.
وقيل: يراها المؤمن ليعرف قدر النعمة ويصلي الكافر بالنار. وجواب فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ محذوف أي إذا جاءت الطامة دخل أهل النار النار واهل الجنة الجنة. وقرأ مالك بن دينار: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ}. عكرمة: وغيره: {لمن ترى} بالتاء، أي لمن تراه الجحيم، أو لمن تراه أنت يا محمد. والخطاب له عليه السلام، والمراد به الناس.


{فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41)}
قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا} أي تجاوز الحد في العصيان. قيل: نزلت في النضر وابنه الحارث، وهي عامة في كل كافر آثر الحياة الدنيا على الآخرة.
وروى عن يحيى بن أبي كثير قال: من أتخذ من طعام واحد ثلاثة ألوان فقد طغى.
وروى جويبر عن الضحاك قال: قال حذيفة: أخوف ما أخاف على هذه الامة أن يؤثروا ما يرون على ما يعلمون. ويروى أنه وجد في الكتب: إن الله جل ثناؤه قال: لا يؤثر عبد لي دنياه على آخرته، إلا بثثت عليه همومه وضيعته، ثم لا أبالي في أيها هلك. {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى} أي مأواه. والألف واللام بدل من الهاء. {وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ} أي حذر مقامه بين يدي ربه.
وقال الربيع: مقامه يوم الحساب. وكان قتادة يقول: إن لله عز وجل مقاما قد خافه المؤمنون.
وقال مجاهد: هو خوفه في الدنيا من الله عز وجل عند مواقعة الذنب فيقلع. نظيره: {وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ} [الرحمن: 46]. {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى} أي زجرها عن المعاصي والمحارم.
وقال سهل: ترك الهوى مفتاح الجنة، لقوله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى} قال عبد الله بن مسعود: أنتم في زمان يقود الحق الهوى، وسيأتي زمان يقود الهوى الحق فنعوذ بالله من ذلك الزمان. {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى} أي المنزل. والآيتان نزلتا في مصعب بن عمير وأخيه عامر بن عمير، فروى الضحاك عن ابن عباس قال: أما من طغى فهو أخ لمصعب بن عمير أسر يوم بدر، فأخذته الأنصار فقالوا: من أنت؟ قال: أنا أخو مصعب بن عمير، فلم يشدوه في الوثاق، وأكرموه وبيتوه عندهم، فلما أصبحوا حدثوا مصعب بن عمير حديثه، فقال: ما هو لي بأخ، شدوا أسيركم، فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا. فأوثقوه حتى بعثت أمه في فدائه. {وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ} فمصعب بن عمير، وقى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه، حتى نفذت المشاقص في جوفه. وهي السهام، فلما راه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متشحطا في دمه قال: «عند الله أحتسبك وقال لأصحابه: لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعليه من ذهب».
وقيل: إن مصعب ابن عمير قتل أخاه عامرا يوم بدر. وعن ابن عباس أيضا قال: نزلت هذه الآية في رجلين: أبي جهل بن هشام المخزومي ومصعب بن عمير العبدري.
وقال السدي: نزلت هذه الآية وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وذلك أن أبا بكر كان له غلام يأتيه بطعام، وكان يسأله من أين أتيت بهذا، فأتاه يوما بطعام فلم يسأل وأكله، فقال له غلامه: لم لا تسألني اليوم؟ فقال: نسيت، فمن أين لك هذا الطعام. فقال: تكهنت لقوم في الجاهلية فأعطونيه. فتقايأه من ساعته وقال: يا رب ما بقي في العروق فأنت حبسته فنزلت: {وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ}.
وقال الكلبي: نزلت في من هم بمعصية وقدر عليها في خلوة ثم تركها من خوف الله. ونحوه عن ابن عباس. يعني من خاف عند المعصية مقامه بين يدي الله، فانتهى عنها. والله أعلم.


{يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)}
قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها} قال ابن عباس: سأل مشركو مكة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متى تكون الساعة استهزاء، فأنزل الله عز وجل الآية.
وقال عروة بن الزبير في قوله تعالى: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها} لم يزل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل عن الساعة، حتى نزلت هذه الآية {إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها}. ومعنى {مُرْساها} أي قيامها. قال الفراء: رسوها قيامها كرسو السفينة.
وقال أبو عبيدة: أي منتهاها، ومرسي السفينة حيث، تنتهي. وهو قول ابن عباس. الربيع بن أنس: متى زمانها. والمعنى متقارب. وقد مضى في الأعراف بيان ذلك. وعن الحسن أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا تقوم الساعة إلا بغضبه يغضبها ربك». {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها} أي في أي شيء أن يا محمد من ذكر القيامة والسؤال عنها؟ وليس لك السؤال عنها. وهذا معنى ما رواه الزهري عن عروة بن الزبير قال: لم يزل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل عن الساعة حتى نزلت: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها} أي منتهى علمها، فكأنه عليه السلام لما أكثروا عليه سأل الله أن يعرفه ذلك، فقيل له: لا تسأل، فلست في شيء من ذلك. ويجوز أن يكون إنكارا على المشركين في مسألتهم له، أي فيم أنت من ذلك حتى يسألوك بيانه، ولست ممن يعلمه. روي معناه عن ابن عباس. والذكرى بمعنى الذكر. {إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها} أي منتهى علمها، فلا يوجد عند غيره علم الساعة، وهو كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي} [الأعراف: 187] وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34]. {إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها} أي مخوف، وخص الإنذار بمن يخشى، لأنهم المنتفعون به، وإن كان منذرا لكل مكلف، وهو كقوله تعالى: {إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ} [يس: 11]. وقراءة العامة مُنْذِرُ بالإضافة غير منون، طلب التخفيف، وإلا فأصله التنوين، لأنه للمستقبل وإنما لا ينون في الماضي. قال الفراء: يجوز التنوين وتركه، كقوله تعالى: {بالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3]، و{بالِغٌ أَمْرَهُ} و{مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ} [الأنفال: 18] {ومُوهِنٌ كَيْدَ الْكافِرِينَ} والتنوين هو الأصل، وبه قرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج وابن محيصن وحميد وعياش عن أبي عمرو {منذر} منونا، وتكون في موضع نصب، والمعنى نصب، إنما ينتفع بإنذارك من يخشى الساعة.
وقال أبو علي: يجوز أن تكون الإضافة للماضي، نحو ضارب زيد أمس، لأنه قد فعل الإنذار، الآية رد على من قال: أحوال الآخرة غير محسوسة، وإنما هي راحة الروح أو تألمها من غير حس. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها يعني الكفار يرون الساعة لَمْ يَلْبَثُوا أي في دنياهم، إِلَّا عَشِيَّةً أي قدر عشية أَوْ ضُحاها أي أو قدر الضحا الذي يلي تلك العشية، والمراد تقليل مدة الدنيا، كما قال تعالى: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ} [الأحقاف: 35].
وروى الضحاك عن ابن عباس: كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا يوما واحدا.
وقيل: لَمْ يَلْبَثُوا في قبورهم إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها، وذلك أنهم استقصروا مدة لبثهم في القبور لما عاينوا من الهول.
وقال الفراء: يقول القائل: وهل للعشية ضحا؟ وإنما الضحا لصدر النهار، ولكن أضيف الضحا إلى العشية، وهو اليوم الذي يكون فيه على عادة العرب، يقولون: آتيك الغداة أو عشيتها، وآتيك العشية أو غداتها، فتكون العشية في معنى آخر النهار، والغداة في معنى أول النهار، قال: وأنشدني بعض بني عقيل:
نحن صبحنا عامرا في دارها *** جردا تعادي طرفي نهارها
عشية الهلال أو سرارها ***
أراد: عشية الهلال، أو سرار العشية، فهو أشد من آتيك الغداة أو عشيها.

1 | 2